حياٌة أدبًا "الثقافةُ لا تُشرى ولا تُباع" ألشَّارِع-ناجي نعمان (لبنان)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 

حياٌة أدبًا
"الثقافةُ لا تُشرى ولا تُباع"
ألشَّارِع

  ناجي نعمان    

خَطَوْتُ خُطْوَتي الأولى في ذلك الشَّارع الضَّيِّق. وكان جَدِّي مَن يَخْطوها.
كانَ القرنُ التَّاسعَ عَشَرَ في رُبعه الأخير، وجَدِّي، بطربوشٍ يُغَطِّي شَعرَه المُجَعَّد، وشارِبَين يَرْقُصان شَبابًا، يَخْتالُ وعَصاهُ في يَده كما لِمَجدٍ آتٍ.
رائحةُ الفول المُدَمَّس تَنْبَعِثُ من عند أبي وَفيق، فَوَّالِ الدَّسكَرَة، والحركةُ في الشَّارع، مع هذا الصَّباح، بَدَأَتْ تَدُبّ: فالبَيْطارُ يُعالِجُ الدَّواب ويَنْعَلُها، وعبدُ الله يَنْحَتُ في الصَّخر، وبائعُ الصَّابون والزَّيت يَسْتَميتُ في إقناع زَبونةٍ هَبَطَتْ إلى السَّاحل من عَلِ لِكَفِّها عن مُجادَلته بالأسعار، فيما بائعُ الأقمشة يَصيحُ بصَبِيِّه للالتِفـات إلى العمل بَدلَ اللَّهو بالقرب من نَبع الماء، وغَنيُّ الحَيِّ، بJ "غِمبازه" ووَجهه الغافي، يَصيحُ بالإثنين معًا، ومن على شُرفة "حارَتِه"، أنْ دَعاني أُكْمِلُ نومًا فاتَني ليلاً في سَهرة طَبلٍ وزَميرٍ وصَخَب.


***
وخَطَوْتُ خُطْوتي الثَّانية في الشَّارع الضَّيِّق عَينِه. وكانَ والدي مَن يَخْطوها.
كانَ القرنُ العِشرون في رُبعه الأوَّل، ووالدي قد تَخَلَّى عن طربوش العَثْمَنَة، فيما حافَظَ على شارِبَيه بعدما قَلَبَهُما من دُرْجَة "دُغْلاس" إلى شاربَين وطَنيَّين مُنتَصِبَين إلى أعلى، وسارَ مُمْتَشِقًا عَصا جَدِّي، عَصا المَجد الَّذي إلى قُدوم.
الوقتُ ظُهرٌ، وآكِلو الفول من يَد وَفيق، إبنِ أبيه، يَمْلأون بُطونَهم، والشَّارعُ على حَركته مع بعض تعديلات: فالميكانيكيُّ حَلَّ محلَّ البَيْطار، ومِتري بن عبد الله امْتَهَن الكتابةَ، فيما مَتجرُ الصَّابون والزَّيت بيعَ من شخصٍ قَلَبَه سمانة، والبناءُ حيثُ مَتجرُ الأقمشة رُفِعَ فوق طابقه الأرضيِّ طابق. إبنُ الغنيِّ الَّذي وَرِثَ أباه، صَحا، وراحَ ببِنْطالِه الإيطاليِّ وقميصِه الزَّاهِيَةِ الألوان، ومن على الشُّرْفة الشَّهيرة، يَرْتَشِفُ قهوةَ صباحٍ قُدِّمَت له ظُهرًا.


***
وخَطَوْتُ خُطْوتي الثَّالثة في الشَّارع الَّذي ما زالَ ضيِّقًا. وكنتُ أنا مَن يَخطوها.
كانَ القرنُ العِشرونُ في رُبعه الثَّالث، وقد تَخَلَّيْتُ عن عَصا مَجدٍ لم يَأْتِ، وحَلَقْتُ شارِبَين لم أَسْتَحِقَّهما، لكنِّي لم أَعْتَمِرْ قُبَّعةً إفرَنجِيَّةً كانَ من شأنها أن تَقْضِيَ على باقي هُوِّيَّتي.
الوقتُ ما بعدَ الظُّهر، ومَن فاتَه صحنُ الفول من يد أبي وَفيقٍ الثَّاني، اِسْتَدْرَكَ وأَسْرَعَ لسَدَّ جوعه. وأمَّا الشَّارعُ فعلى حَركته مع بعض تعديلات: بائعُ الأجهزة الكهربائيَّة حَلَّ مَحَلَّ الميكانيكيّ، وناجي بن مِتري امْتَهَنَ، إلى الكتابة، النَّشرَ، فيما مَحَلُّ السِّمانة غَـدا مَخزنًا كبيرًا، ومَتجَرُ الأقمشة تَحَوَّلَ لمَبيع الألبِسَة الجاهزة. وأمَّا حَفيدُ غنيِّ الحَيِّ - فبَعدَما أَنْفَقَ كلَّ ما بَقِيَ من والده عن جَدِّه الَّذي أَثْرَى أساسًا بالغِشّ، فبالتِّجارة الحَذِقَة الَّتي هي رَديفُ السَّرِقَةِ المُشَرْعَنَة - وأمَّا هذا الحَفيد، فقدِ انْتَهى فقيرًا لا يَمْتَلِكُ سوى مَسكَنِ العائلة.


***
وخَطَوْتُ خُطْوتي الرَّابعة في الشَّارع الضَّيِّق الَّذي رُصِفَ بالحَجَر الأسود وزُيِّنَ بما يُبْقي على رَوْنَقِه القديم، فيما طُمِسَت، ويا لَلأسَف، مَعالِمُ عَين مائه؛ أَقولُ، خَطَوْتُ خُطْوتي الرَّابعة، وكانَ ابني مَن يَخطوها.
كانَ القرنُ الحادي والعِشرون في رُبعه الأوَّل، وقد تَفَرْنَجَ ابني وتَعَوْلَم، وضاعَتْ هُوِّيَّتُه وتَكَوْنَـن، وراحَ يَلْبَسُ ويأكُلُ ويَتَكَلَّمُ ويتَصَرَّفُ على ما أَوْجَبَـه الجيلُ عليه كما على غَيره، فيما الجيلُ يَتَبَدَّلُ عامًا فعامًا، لا بَل شَهرًا فشَهرًا.
الوقتُ مَساءٌ، ومَن أَرادَ أن يَسْتَعيدَ طَعمَ الماضي تَوَجَّهَ إلى مطعم وَفيقٍ الثَّاني، وتَناوَلَ صحنَ فولٍ لا يُساويه صَحن، قديمٌ في مُكَوِّناتِه ونَكهَته، لم يَمَسَّه العِلْم، بينما الشَّارعُ على حَركته مع بعض تعديلات: بائعُ الأجهزة الإلكترونيَّة حَلَّ مَحَلَّ بائع الأجهزة الكهربائيَّة، ومروان بن ناجي تَرَكَ كتابةً لا تُجْدي إلى مَصلحةٍ تُكْسِبُ قوتًا، وقدِ انْدَمَجَ المخزنُ الكبيرُ ومَتجَرُ الألبسة الجاهِزَة لمواجهة منافسةٍ حادَّةٍ من مُجَمَّعٍ تجاريٍّ قامَ في الشَّارع المُوازي. وأمَّا ابنُ حفيد غَنيِّ الحَيِّ فباعَ مَسكَنَ العائلة من صاحب مَشروعاتٍ سياحيَّة، وانْتَقَلَ إلى شقَّةٍ متواضِعَة.


***
وخَطَوْتُ خُطْوتي الخامسة في الشَّارع الَّذي غَدا تاريخيًّا وسياحيًّا. وكانَ حفيدي مَن يَخْطوها. كانَ القرنُ الحادي والعِشرون في رُبعه الثَّالث، وقدِ انْتَهَتِ الأوطانُ، أو كادَت، وضاعَتِ الهُوِّيَّاتُ والانتماءات، كما الاتِّجاهاتُ في المأكل والمَلبَس والكلام والتَّصَرُّف.
الوقتُ ليلٌ في الشَّارع الَّذي لم يَعُدْ يَنام. كلُّ شيءٍ تَبَدَّلَ فيه. وَحدَه صحنُ الفول بَقِيَ مُستَمِرًّا كما التَّقليد، يَتَناولُه مَن لَمْ يَكْتَفِ بحُبوب الأكل الصِّناعيَّة، وأَحَبَّ أن يُمَرِّنَ فَكَّيه وحاسَّةَ الذَّوق لديه. نَعَم، بَقِيَ صحنُ الفول يؤكَلُ من يَدِ أبي وَفيقٍ الثَّالث الَّذي جَعَلَ من اسمِ وَفيقٍ الأوَّل علامةً تجاريَّةً مُسَجَّلَة.


***
خَطَوْتُ خَمسَ خُطُواتٍ فقط، من جَدِّي إلى حَفيدي، في ذلك الشَّارع الضَّيِّق، فاجْتَزْتُه وكَتَبْتُ تاريخَ زمنٍ محدَّدٍ بمَكانٍ مُعَيَّن. فأين زَمني وزَمنُ مَن سَبَقَني وتَلاني من "الزَّمن"، وأين مكاني، ومكانُهم، من "المَكان". أين كان الشَّارعُ في طَورٍ جيولوجيٍّ سابق؟ أتَحتَ المياه؟ وأين تُراهُ يَكونُ في زَمنٍ لاحِق؟ أَعاصِفًا بجنون البَشَر إلى حَدِّ الدَّمار والاندِثار؟
ثمَّ أين الشَّارعُ بناسِه في ذلك الزَّمن من كرةٍ أرضيَّةٍ ضخمةٍ بِناسها ومن دون ناسِها، بالمؤرَّخ من تاريخها وغَير المؤرَّخ؟ وأين تلك الكرةُ الأرضيَّةُ من كَونٍ ما زالَ يُكْتَشَف، فيما نجومُ السَّماء أكثرُ عددًا من ذرَّات الرَّمل في كلِّ صحارى وشواطئ الأرض؟ أين تلك الكرةُ من الكَون وهي، اليومَ، إذا ما قيسَت به، بحَجمِ "كُرَةِ تِنِس" قياسًا بها؟!

ذاك هو الشَّارعُ، وذاك هو الزَّمانُ والمَكان، عندما يَكونُ الشَّاعرُ هو مَن يَخْطو.



  من "المُسالِم" – من الجُزء الثَّاني
©الحقوق محفوظة - دار نعمان للثقافة
  ناجي نعمان (لبنان) (2009-09-23)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

حياٌة أدبًا

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia